في يوم الخميس 22/ 9/
1436هـ الموافق 9/7/2015م فُجعنا وصُدمنا بخبر رحيل الأمير سعود الفيصل ، رجل
المملكة القوي ووزير خارجيتها السابق ، وقد قيل عنه الكثير وكتب عنه الكثير ، لذا
سأقتصر هنا على ذكر مواقف من حياة هذا الرجل العظيم ...
ـ اشتهر الفيصل بمعاداة دولة الاحتلال
الإسرائيلي ، فقد هاجمها بعشرات الكلمات والخطابات وطالب بحقوق الشعب الفلسطيني
التي اغتصبتها، وقد شهدت قاعة الأمم المتحدة عام 1977م (بعد توليه بعامين) هجوماً
ضارياً من الأمير سعود على البرنامج النووي الإسرائيلي وفضح أكاذيب إسرائيل في
المحافل الدولية بأنها دولة تسعى للسلام ..
حيث قال: " أود أن أشير إلى السر
المعلن عن إنتاج إسرائيل للأسلحة الذرية والنتائج الوخيمة المترتبة على ذلك ..
وهكذا وبكل جرأة فاضحة توجه إسرائيل جهودها ليس نحو السلام وإنما في زيادة مخاطر
وأهوال ما لديها من أسلحة فتاكة "، فكان أول من فضح البرنامج النووي الإسرائيلي
أمام الأمم المتحدة والعالم عام 1977 ...
ـ الأمير سعود الفيصل عبر بجلاء عن موقف
المملكة السعودية الداعم للقضية الفلسطينية ، حين قال مقولته الشهيرة إن
"المملكة نذرت نفسها لخدمة قضية فلسطين ..
وإن المملكة تعتبر القضية
الفلسطينية قضيتها الأولى"، وقد ترجم المقولة إلى أفعال من خلال وقوف المملكة
مع الفلسطينيين .. منذ الاحتلال وإلى اليوم ، على كل الأصعدة ، مادياً ومعنوياً
وسياسياً ودبلوماسياً .. مما لا يسع المجال لذكره ..
ـ يُروى عنه أنه في أحد المؤتمرات
العالمية قام بنزع السماعات عندما بدأ الوفد اليهودي بالحديث.. وحينما سُئل عن
السبب: "قال إنه غير مهتم، وليس لديه وقتٌ ليسمع ما سيقولون ؟!".
ـ وفي أحد الاجتماعات الدولية تطلَّبت
الضرورة وجود الوفد الإسرائيلي.. فاشترط الأمير أن يكون له ولوفده بوابة خاصة ، لتجنب
رؤية أو مصافحة وفد الصهاينة ، وكان له ما أراد !! وكان يوصف بأنه أكثر من كان
يعارض ويهاجم أي مقترحات إسرائيلية ، في أي محفل دولي وعالمي ..
ـ مزقت لبنان حرباً أهلية طاحنة استمرت
أكثر من 16 عاماً ( من أبريل 1975م حتى أكتوبر 1990م)، فشلت فيها كل محاولات
الوساطة الدولية والعربية، حتى تم تصنيفها كأصعب وأعقد القضايا التي عاشتها
المنطقة العربية في تلك الفترة ..
لكن الدبلوماسية السعودية كان لها رأياً آخر
ودوراً فريداً وصلت به إلى الهدف المنشود ، عبر اتباعها سياسة "احتواء"
كل الأطراف، ونجح الأمير سعود الفيصل في جمع كل أطراف الصراع في مدينة
"الطائف"..
ولعب دوراً رئيسياً في تذليل العقبات بين الأطراف المتصارعة ،
ليوقع الجميع "اتفاقية الطائف التاريخية "الشهيرة التي أنهت
المجازر والصراعات الدموية التي عاشتها لبنان طوال هذه الفترة ، فكان مهندس تلك
الاتفاقية !!
ـ وتميز الفيصل بالوقوف الحاسم ضد الاتحاد
السوفيتي السابق في العديد من مواقفها ضد الدول العربية والإسلامية ... وقد قال عنه ميخائيل جورباتشوف آخر زعماء الاتحاد السوفييتي السابق : "لو
كان لدي رجل كسعود الفيصل ، ما تفكك الاتحاد السوفياتي" !! .
ـ وهو من أبرز
المؤثرين في السياسة الخارجية لدول الخليج بل والعالم العربي، فمعه وعلى يديه انطلق
مجلس التعاون الخليجي قبل 35عامًا (عام 1980م)، وهو أحد صانعي سياسته وقراراته ، وكان
حلمه منذ سنوات طويلة أن يتحول المجلس إلى اتحاد ...
ـ قاد الفيصل سياسة السعودية الخارجية
إبان الحرب العراقية - الإيرانية (1980- 1988) ، ومن مواقفه الشجاعة آنذاك قيامه
في 1985بزيارة رسمية لطهران هدفت للتركيز على مسألة الحجاج الإيرانيين ، وكان
ذهابه إلى وكر الثعابين والعقارب مغامرة خطيرة جداً ومخيفة ...
ولمن لا يعرف فقد كانت
تلك الفترة أسوأ فترة علاقات بين إيران والمملكة ، حيث كانت الحرب العراقية
الإيرانية في أوجها ، وكانت المملكة الداعم الأكبر للعراق ، وكان الخميني شيطان
إيران الأكبر على رأس السلطة والاعتداءات الإيرانية المجوسية على الحرم المكي
تتكرر سنوياً ...
ـ وقاد الفيصل سياسة المملكة أثناء الغزو
العراقي للكويت في 1990 ، وخلال حرب الخليج التي تبعته (1991) ، وصولاً إلى تحرير
الكويت من قبل تحالف دولي قادته الولايات المتحدة انطلاقاً من المملكة ، و قاتلت
السعودية في ذلك التحالف إلى أن تم تحرير الكويت.
ـ وكان صدام حسين يعتبر سعود
الفيصل أدهى من قابل في حياته ، حيث قال : “حينما كنت في حرب إيران جعل
العالم معي وبعد أن دخلت الكويت قلب العالم ضدي، وكل ذلك يكون في مؤتمر صحفي واحد،
ولو كان لدي رجل كسعود الفيصل لحكمت العالم”.
ـ ونجح الفيصل في قيادة الجهود السعودية
لإعادة تحسين صورتها الدولية أمام العالم ، بعد هجمات 11 سبتمبر 2001م على نيويورك
وواشنطن.
ـ وبعد عام 2003م كثيراً ما انتقد الفيصل
سياسة الولايات المتحدة في العراق علانيةً ، وقد صرَّح أمام مجلس العلاقات
الخارجية في نيويورك أن "سياسة الولايات المتحدة في العراق، تُعمّق
الانقسامات الطائفية إلى حد أنها تسلِّم البلاد فعلياً لإيران".
وقال في قلب
أمريكا: "... الإيرانيون يذهبون إلى المناطق التي تؤمّنها القوات الأمريكية
المحتلة ويسلحون الميليشيات التي هناك وهم يحتمون أثناء ذلك بقواتكم !!.
ـ وفي عام 2004، أكد الفيصل أن المصدر
الأساسي للمشكلات في منطقة الشرق الأوسط ليس المسلمين ، وإنما "انعدام عدالة
الأمم المتحدة والقوى الكبرى" تجاه المنطقة !!
ـ وحين اندلعت ثورات ما يسمى بالربيع
العربي في 2011 والتي بدأت في تونس ومصر وسورية واليمن، أربكت حسابات العديد من
الدول، لكن المملكة وسياستها الخارجية تجاه "الربيع العربي" اتسمت
بالثبات والقدرة على تبني مواقف خالدة ، متمسكة بخيار " الانحياز للشعوب
أولاً"...
وظهر ذلك جلياً في موقف الدبلوماسية السعودية إزاء الأزمة السورية،
فبينما كل الدول مترددة في بيان موقفها الواضح والصريح منها، خاصة في بداية نشوبها
في مارس 2011م، كانت المملكة والأمير سعود الفيصل هم أول من طالبوا برحيل نظام
الأسد واتهامه بفقد شرعيته.
ـ وطوال السنوات الخمس من عمر الثورة
السورية، كانت المملكة الداعم الأساسي والرئيس للمعارضة السورية المعتدلة والجيش
الحر ـ بالمال والسلاح ـ وكان الفيصل داعمها الأكبر والصلب ، فكان يفضح ويجرم نظام
بشار في كل محفل ومناسبة ، وكان ينادي ويطالب بتسليح المعارضة السورية ، لكي تدافع
عن نفسها ضد النظام الدموي الطاغي .
ـ وفي مارس 2011م أكد الأمير سعود الفيصل
في مؤتمر صحفي رسمي في جدة رفض المملكة لأي تدخل خارجي في شؤونها الداخلية ، وقال
: "أي إصبع سيمتد للتدخل في شؤوننا الداخلية سنقطعه". في إشارة إلى
إيران !!
وقال في مؤتمر في فيينا في نفس العام :
تعتقد إيران أنها ستستطيع أن تفرض نفوذها علينا من خلال إثارة الفوضى والقتل ، لن
نرضخ لها مطلقاً ونحملها مسؤولية أي تحرك ضدنا .
ـ وفي يناير 2012، تم تعيين مراقبين عرب
في سوريا لمراقبة نزع الأسلحة الكيميائية ـ ضمن اتفاقية دولية ـ ، فشعر الأمير أن
هناك تخاذل وتلاعب وفساد في التنفيذ ، فقال بصراحته المعهودة: "الوضع لا يمكن
أن يستمر، لن نكون شهود زور، بلادي ستسحب مراقبيها..."، وتم سحب المراقبين
السعوديين فوراً !! وتبعتهم عدة دول .
ـ وفي فبراير 2012 أعلن الأمير سعود
انسحاب بلاده من "مؤتمر أصدقاء سوريا" الذي انعقد في تونس آنذاك، وقال
قبل انسحابه "النظام السوري فقد شرعيته وبات أشبه بسلطة احتلال، ولم يعد هناك
من سبيل للخروج من الأزمة إلا بانتقال السلطة إما طوعاً أو كرهاً ، ويجب تزويد
المعارضة السورية بالأسلحة ..
ـ وفي أكتوبر 2013م رفض الأمير سعود الفيصل التحدث من على منصة
الجمعية العامة للأمم المتحدة ، لفشل المنظمة الدولية في معالجة الأزمة الفلسطينية
والسورية، وبسبب ازدواجية المعايير في هذه المنظمة ...
فعلق مسؤول أمريكي قائلاً:
" أن الأمير سعود سجل سابقة في تاريخ المنظمة الدولية، فلأول مرة يرفض وزير
خارجية في العالم إلقاء كلمة في اجتماعات الأمم المتحدة ، وإن تصرفه تعبيراً لم
يسبق له مثيل عن الاستياء".
ـ وقال حينها وزير الخارجية القطري، خالد
العطية : "أخي سمو الأمير سعود الفيصل عندما تغضب تربك العالم !! فشكراً لك
فهذه هي المملكة العربية السعودية"...
ـ وبعدها بشهر ، ولما رُشِحت المملكة كعضو في مجلس الأمن الدولي ..أصدر
الأمير سعود بياناً قوياً أعلن فيه رفض المملكة شغل مقعدها ـ والذي تتمناه أي دولة في العالم ـ وذلك
بسبب فشل هذا المجلس في حل القضية الفلسطينية، وفشله في وقف النزاع السوري، وفشله
في جعل منطقة الشرق الاوسط آمنة خالية من السلاح النووي !!
وكانت مفاجأة كبرى
وصدمة لكل العالم !! حيث أن هذا الرفض يعتبر سابقة تاريخية تحدث لأول مرة في تاريخ
الأمم المتحدة !!
ـ وفي 2014م صرخ في مجلس الأمن الدولي في
الأمم المتحدة ـ بعد أحداث غزة المأساوية ـ
قائلاً : إننا كعرب مسالمين نبحث عن السلام , ولكنكم تماطلون وتسفهون كل مطالب
السلام ؛ لذلك أن تم ذلك مرة أخرى سنقوم بإدارة ظهورنا لكل قراراتكم والبحث عن
خيارات أخرى ..".
ـ وهو من مهندسي تكوين التحالف المحارب
لداعش في العراق وسوريا بقيادة أمريكا والمملكة عضو ضارب في هذا التحالف ، وقد دعا الفيصل هذا الائتلاف الدولي الذي ينفذ
ضربات جوية ضد تنظيم "داعش" إلى مواجهة هذا التنظيم على الأرض ، وإن
الضربات الجوية لوحدها لن تجدي أبداً .. محذراً بشدة من تنامي دور إيران في العراق
!!
ـ وفي 2015 لما استغاثت اليمن بجارتها
الكبرى السعودية ـ بعد الاحتلال الحوثي الإيراني ـ اعتبر الفيصل أن الاستغاثة اليمنية أتت من بلد
جار وشعب مكلوم، وقيادة شرعية ، ومن هذا المنطلق كان له دور بارز في حشد تحالف عربي
وانطلاق معركة "عاصفة الحزم" ...
ولن ينسى أحد كلمته المدوية لدى انطلاق
نيران "عاصفة الحزم" حين قال : "نحن لسنا دعاة حرب ، ولكن إذا
قُرعت طبولها فنحن جاهزون لها".
ـ ولعل من أحدث مواقفه رده الصاعق على
رسالة الرئيس الروسي فلاديمير بوتن إلى القمة العربية الأخيرة في شرم الشيخ 2015م رغم
مرضه الذي ظهر عليه ، حيث أبدى اعتراضه ورفضه للرسالة وقاطعها ...
ومما قاله :
"يتكلمون عن مآسي الوضع في سورية بينما هم جزء أساسي من المآسي التي تمس
الشعب السوري، يمنحون الأسلحة للنظام المجرم ليقتل بها شعبه.."
وكان الفيصل يحظى بتقدير واحترام جميع
الدبلوماسيين والسياسيين حول العالم ، نظراً لصفاته النادرة ، قال عنه أوباما رئيس
الولايات المتحدة : أجيال من قادتنا ودبلوماسيينا استفادوا من مهاراته ورؤيته !! وقال
عنه وزير الخارجية الأمريكي السابق كولن باول : "سعود الفيصل يعادل اللوبي
اليهودي، بل ويعتبر لوبي سعودي في أروقة الكونجرس".
وقال أحد أعضاء الكونجرس في عام 2004،
" لو استمع جورج بوش لكلام سعود الفيصل لكان استغنى عن كل مستشاريه بالشرق
الأوسط" !! وقال وزير الخارجية الفرنسي السابق، برنارد كوشنر، إن
"الأمير سعود الفيصل أكبر الساسة في العالم حنكة وحكمة"، وقال عنه الإعلام
الإسرائيلي: الأمير من الدبلوماسيين القلائل الذين يرفضون مبدأ "الدبلوماسية
السرية"!!
ـ وقيل للشيخ عبدالله بن زايد وزير خارجية
الإمارات : صف الأمير سعود الفيصل في كلمة واحدة، فقال «الهِمّة». فلم أرَ وزير خارجية قط بهمّته العالية، وكان النشاط والعمل الدؤوب من أهم
صفاته وأجملها ، وأضاف : لقد كان صمام التوازنات السياسية في الشرق
الأوسط طوال أربعة عقود ، وقال عنه بعد رحيله : رحل الأستاذ وبقي المنهج !!
ـ سعود الفيصل أمير السياسة وفارس
الدبلوماسية والحكمة ، أقدم وزير للخارجية في العالم ، إذ تولى حقيبة الخارجية
السعودية عام 1975، وقاد دفتها إلى عام
2015 ، أي لمدة 40 عاماً متواصلة ، عاصر خلالها أربعة من ملوك المملكة !!
ـ كثيرة هي الألقاب التي أطلقت عليه ، فارس
السياسة ، ومهندس الدبلوماسية ، عراب السياسة ، عميد الدبلوماسية ، كيسنجر السياسة
العربية ، مهندس إدارة الأزمات ، رجل المهمات الصعبة ، خير سفير لبلاده ، المنقذ
الحكيم ، شكَّل الوجه القوي
للمملكة خارجيًا ...
الذي يتناسب مع حجمها وقيمتها الإسلامية العظمى ووجودها
الاقتصادي المؤثر ، كلماته ومواقفه الدبلوماسية الحازمة
يتم تدريسها في كليات العلوم السياسية حول العالم ، كان يتقن سبع لغات إلى جانب
اللغة العربية.
آخر ما قاله قبل رحيله بمدة يسيرة : "حالتي
الصحية أشبه بحالة الأمة العربية" .. رحمه الله وغفر له وجازاه عن الإسلام
والمسلمين كل خير ...
بقلم : أحمد
معمور العسيري