يصادف هذه الأيام مرور 30 عاماً على ترجلك عن فرسك ومغادرتك لدنيانا الفانية .. تركتنا ـ وقتها ـ أيتاماً صغاراً وأماً أرملة غريبة .. تركتنا وكنا لا زلنا صغاراً ـ أنا وأخوتي ـ لا زلنا بأمسِّ الحاجة إليك !!
في فترة مراهقتي ـ وبعد وفاتك ـ كنتُ كثيراً ما انفجر غاضباً ـ عن جهل ـ وأعبِّر عن سخطي الشديد على مستوانا المتواضع الذي كنا عليه ، كنت أصرخ في والدتي الحبيبة ـ أطال الله عمرها ـ : لماذا لم يعمل أبي في وظيفة أفضل؟ ولماذا لم يشترِ لنا منزلاً أفضل؟ ولم كان غيرنا أفضل منا.. ولماذا ولماذا ولماذا؟؟؟
لاحقاً عندما كبرت وتزوجت وأنجبت الأبناء ، علمت وتيقنت أننا لن ننال إلا ما قدَّره الله لنا وما كنا عليه هو رزقنا الذي قسمه الله لنا .. وأنك لم تقصَّر معنا وبذلت لنا كل ما قدرت عليه وما وسعك .. فكنت تجوع لتشبعنا وتعرى لتكسينا وتبرد لتدفئنا .. تظلل علينا وأنت تحت أشعة الشمس الحارقة ... رغم قلة ذات اليد كنت تحضر لنا ـ قدر استطاعتك ـ كل ما نشتهيه ونتمناه .
أبي الحبيب .. مستواك العلمي كان محدوداً وعملك كان بسيطاً .. لكنك وفرت لنا لقمة العيش الحلال الطيبة ، يضمنا بيتنا الصغير الشعبي في تلك الحارة الشعبية القديمة ـ حي العمامرة في قلب الدمام ـ كانت مساحة البيت 70م2 فقط ومع ذلك ضمني ووالديَّ وأخوتي التسعة .. ويشهد الله أننا ما أحسسنا يوماً بضيق !!
كنت تكافح في هذه الدنيا الغادرة وحيداً ، تغادرنا في الصباح الباكر ولا تعود إلاَّ وقد أرخى الليل سدوله .. ونحن على فراش النوم ، كان عملك شاقاً ومرهقاً .. أفنيت عمرك من أجلنا ورحلت وأنت لا زلت في مقتبل العمر ـ توفي الوالد وهو في أواخر الأربعينات من عمره ـ . كنت تماماً كالشمعة التي تحترق لتضيء لنا حياتنا .. فكنا نكبر ونشتد وأنت تضوي وتتضاءل ..
أكثر ما يحزنني إنك غادرت الدنيا ولم نرد لك ولو بعضاً من جميلك في رقابنا ، غادرت قبل أن ترانا ـ كما تحب ـ رجالاً نتعامل مع الدنيا وتتعامل معنا ..
محطات في حياتنا كنا فيها بأمسَّ الحاجة إليك ... فلم تكن معنا ولم تفرح معنا يوم أن توظفنا ويوم أن تزوجنا ويوم أن أنجبنا الأبناء .. واجهتنا في حياتنا مواقف وصعاب ومحن .. تمنينا ـ خلالها ـ أن نلجأ إليك ونبكي بين يديك .. لتمدنا بالقوة والثبات والنصح في لحظات ضعفنا ...
اتبعت معنا أسلوب التربية والتنشئة البعيد عن الضرب .. فكنت لا تلجأ إليه رغم أنه كان الشائع في ذلك الوقت ـ على أوسع نطاق ـ أنا وكل أخوتي بجميع شهاداتنا وخبراتنا والنظريات الحديثة التي تعلمناها عجزنا أن نربي أبناءنا أفضل من التربية التي أنشأتنا عليها .. على الفطرة والسليقة !!
رأينا أقارباً لنا وأعماماً كانوا في أوضاع اجتماعية مرموقة .. فلم يمدوا لنا يداً ولا مسحوا لنا رأساً ـ لا في حياتك و لا بعد مماتك ـ بل أنهم انقلبوا علينا شراً ووبالاً بعد رحيلك .. من خلالهم عرفنا قسوة الدنيا وأنانية الإنسان .. وإن ظلم ذوى القربى أشدُّ مضاضة ً ، على النفس من وقع الحسام المهند .. ونحمد الله أننا ما احتجنا إليهم يوماً !!
اليوم أحدث أبنائي عنك .. أحدثهم عن جدهم الذي هو منبت أسرتنا وجذرها الأصيل الذي تفرعنا منه ...
أبي .. إلى هذا اليوم ـ وأنا أب لثمانية أبناء ـ أحسد وأغبط كل من أراه ووالده معه ينعم به ويقبله !!
أبي .. ما أمارسه في حياتي ـ إلى اليوم ـ هو ما تعلمته منك وما تمرست عليه على يديك ، كم أود وأتمنى ـ يا أبي ـ أن أضع رأسي على كتفك وأقبل رأسك ويديك وقدميك ..
جزيل الشكر لك على كل ما قدمته لنا .. وجعل الله قبرك روضة من رياض الجنة ، ورحمك وغفر لك وجمعنا وإياك تحت ظل رحمته وجنته !!
الوالد سنة 1377هـ في بداية قدومه للمنطقة الشرقية
وعمله في شركة أرامكو بالظهران
الوالد سنة 1381هـ/1961م في الهند
في رحلة شهر العسل بعد زواجه مباشرة
الوالد معمور في سنة 1394هـ
الوالد معمور سنة 1400هـ
رحمه الله وغفر له !!
بقلم : أحمد معمور العسيري
الدمام